نزوح / طرابلس اللبنانية

الدكتورة وفاء شعراني
لم تفارقني مانيارا ، كانت تتجول معي في أحياء مدينتي طرابلس الفيحاء ، كافة الأحياء التراثية القديمة ، مانيارا في رواية ” نزوح ” مذهلة ، كانت بعد أن قرأتْ رواية ” الأمير الصغير ” الذي عشق وردةً ولِدتْ في نفس يوم ولادة الشمس في كويكب B612 حلمتْ بأن يمتلئ القمر والمرّيخ ببساتين وغابات ومروج ، بأزهارٍ وحقول بنفسج ، وبأسرابِ حمامٍ كثيرة تظلّلُها ، وعصافير ودجاج ، من سقطرة ، المكان الأجمل على الأرض تحمل مانيارا أحلامها وحين ترحلُ خارج جاذبية الأرض تشتغل منظومات دماغها بحيوية ، وعاشقها من على الأرض يتابع ما يدور في دماغها من تياراتٍ كهروكيماوية بين عصبوناتها .. يأتي الكلام حواراً يُدخِل القارئ في نشاط سروري التعبيري ، يطور وسائل بث معقدة ومتطورة ، لعل جوابا موجزا اجده كامنا بالتماهي مع النص ، من الغيابِ فيه نظرتُ في حركته وعناصر بنيته .
لماذا لاحقتْني مانيارا ، لا أملكُ سيرةً ذاتيةً كسيرتها ، هي تعجُّ بانجازات ودراسات ، كما لستُ أملكُ وجهاً نحاسيَّاً ملائكيَّاً كوجهها ، وشَعري ليس فاحِماً ، هل تجمعنا الميتافيزيقا ؟ إن ما يمنعُ وجودَ ظاهرةِ الحياة في بعضٍ من مليارات مليارات الكواكب : سؤالٌ ! ، سؤالٌ تقع اجابته في خوض رؤيةٍ للمستقبل ، رواية نزوح خضمٌ من التحولات الكبرى التي يعيشها الإنسان في القرن الواحد والعشرين ، سردية الرواية ولغتها استنطاقٌ لما يمكن أن يحدث لهذا الكائن ، الإنسان ، حينما تقترن الأساطير القديمة بالتقنيات الحديثة ذات القدرات الخارقة . ما الذي علينا فعله ؟
يبني سروري رواية ” نزوح ” على العلاقة الصعبة المعقَّدة بين عالمين ، النزوح من الأرض ثم العيش في الفضاء ، ستبقى الصلة قائمة انطلاقاً من كوكبنا ، الصلة ، من سقطرة أجمل مكانٍ على الأرض قبل أن تتحول إلى غابة ناطحات سحاب ، الأجهزة الإلكترونية كأنها كانت لروّاد مركبتي فضاء ، رحماً ولدهم فرداً فرداً – ولولا خوفي من الكفر لقلتُ إنها خلقتهم فوضعتْ في كلٍ منهم مَلكَة تتيحُ توقّع كيفية تصرفه إزاء موقفٍ معيَّن يستجدُّ عليهم في أقاصي السماء- ، يبقى المكان والزمان في رواية نزوح عصيّان على التحديد ، لذا ، لا بدّ من التخلّي عن كل ايمانٍ مسبق فمن لا يعرف نهاية استحالة الوصول إلى ما هو خارج الزمان والمكان ، مخطئ ، ومَن لا يدرك ، لن يسهلَ عليه ايمانٌ بسيط يحتدم كل لحظة من زمان الفضاء ، تحت مظاهر وجود اخر جديد ، هادئ مستتب ، يتخلص من الجاذبية بين جحافل من اسلحة لا تقتل ، لكن ..هل يستوي في نظر أرباب الرحلة في اللجنة المشرفة على المركبتين ، مَن يعلم ومَن لا يعلم .
ترعبني تلك الأسئلة ما بقيت في قيد الحياة انها توقظ الفضول العلمي – وقد كان محركا في حياتي – وتبث فيّض ذعر، أدرك سببه ، فالإنكبابُ عليها – الأسئلة – والتعمق فيها هو بمثابة الشروع في جنونٍ يداويه الحوار بين الأرض والسماء برعايةٍ رومنساية ساحرة تتحرك بين الأفلاك وتلاقي القمر ، والسباحة خارج المركبة ، ثم العشق ، سحرُ السرد السروري سعادةٌ ميتافيزيقية ، الكون البديع في تجليّات الجمال يطأه الإله لينسحب رواد المركبتين يتجاذبون الحديث جوعى للحب ، فكيف من أعماقِ الظلمة يتصاعدُ خطٌّ مشتعل في اتجاه اللامرئي ؟ من طبقة لغة العشق في السرد السروري ، يُكملُ مبنى الرواية ، واجهةُ البناء عطرُ العطر، حركة استنشاقه من عبق جسد مانيارا وهي تخضع لامتحان المشرف ، تجلسُ أمامه ، يتبادلان حواراً ، رائحةٌ تتغلغلُ في ثنايا حمضِها النووي ، وقبل أن تقتلعَ ” الحضارةُ الحديثة ” غابات أرخبيل سقطرى وأشجار دم الأخوين ” روكب مرمهين ” كان أول أحلامها استعادة طبيعة مكان طفولتها هناك ، في الأرخبيل ، فتزرع دم الأخوين في القمر والمريخ ، عندما تسيطر على ممرات مبنى البراءة والعشق أحاسيسٌ يثيرها منظرٌ لحظة انطلاق صاروخٍ رهيب يحمل الكاتدرائية ، عملاقٌ كناطحة سحاب يخترق الفضاء باتجاه السماء ، وبينما أنظار العالم شاخصةٌ نحوه يُكمل سروري تقويض الحدود التقليدية ، جدٌّ متذكّر يعيش في داخل الراوية حارب من خلال الجسد حارب عبر الجوع وعبر الخوف والفضيلة لا تضيق مساحة النص حين يسيطر الخوف على مانيارا من اكتئاب حاد وهي على بعد 400 الف كم من الأرض على مركبةٍ سرعتُها تتجاوز 40 الف كم بالساعة ِ على صراطٍ مستقيم ، أقحمني كل ذلك في التحوُّل ، فرضَ عليَّ التخلّي عن تصوراتٍ جاهزة امام منطق تفكيك مفاهيم تاريخ الانسان الكبرى ، ومعنى التقدّم ، والهويّة التي كانت تنتج سُلطةً أكثر من أيّ أمرٍ ما ..
يهدمُ سروري أسسَ العلوم الإنسانية ؟ وهل يتحرَّر من نموذجٍ تقليدي يرتكز على ” ذاكرة ” تستنطق الآثار وأنظميّةٍ معرفية تنبثقُ حيناً وتختفي أحياناً ، أي ، فعندما تكون معشوقتك مَن يطيرُ نحو أقصى السماوات فالحزنُ سيفتك بك ، وسيكونُ اختناقكَ مريعاً ، ستبتعد المركبة وتبتعد ، وستعيش الطواقم عبر حوارات مفاهيم علمية ساحرة رومانسية وشاعرية لم يصل بها سروري الى ممارسة نقدية فقط ، بل الى تفكيك آليات تشكيل معرفة كل الذين تقدموا الى لجنة الاشراف ، تقدموا بأنساقٍ وكذلك بتجارب فردية ذاتية ، كان يخيَّلُ إليّ ان سروري ابتعد من التركيز على الذات ، والوعي المُعاش ، وانحاز الى فهم رحلة النزوح إلى أي مكانٍ آخر لا تتم إلا عبر تجاوز الذات إلى النية الموضوعية للعلم ، فتركتُ مانيارا تسير بقربي متجولةً معنا ( سروري وأنا وفريق نادي قاف) غاضبة في أن لا تكون المشاريع بمجملها لإصلاح خرائب هذا الكوكب ، في شوارع طرابلس حيث جذور الشقاء الإنساني تزداد عمقاً ، تركتُ مانيارا وصوتها يتردد في جنبات المدينة ..